قصة قصيرة ** ذاكرة الزمن الفلسطيني **
للكاتب الأستاذ / عبد الله الجبور
رفيق
السهرة رجل عادي... ليس قائداً سياسياً... ولا مقاتلاً ثورياً... عمل طيلة
حياته مزارعاً... عشق الأرض والشجر... آمن بالغيب والقدر... أحب الناس كما
أحب العشب والقمر.
لم يتركه الزمن لحاله... جرجره هنا وهناك... وضعوه
تحت المجهر... راقبوا حركته وأفعاله... صادروا أحلامه.رغم بلوغه السابعة
والسبعين... امتلك إرادة أكبر من المعاناة... واحتفظ بابتسامة تعالت على
المأساة. شربنا الشاي معاً في منزله الريفي قبل أن تنقلنا عربة (كاروه)
إلى شجرة الجميز المحببة إلى نفسه... جلسنا هناك على الأرض وكانت الشمس قد
مالت نحو الغروب... أمامنا وعلى بعد حوالي كيلومتر واحد كانت تطل علينا
إحدى المستوطنات بعيون وقحة... بدا لي أنه اعتاد الجلوس في هذا المكان
كلما شعر بالحنين إلى بيته هناك... إلى ذكريات الصبا في الأرض المحتلة عام
1948م... يحاكيها وتحاكيه مع الهواء القادم من الشرق.لفت انتباهي وجود قبر
تحت شجرة الجميز... جلس بالقرب منه... قرأ الفاتحة ثم رفع يديه إلى السماء
طالباً الرحمة و الغفران.في ذلك المكان... يحلو السهر مع المشهد الخلاب
للطبيعة... و الجو الصيفي الدافئ... أمضينا الليلة حتى الفجر بصحبة
ذكرياته التي تدافعت من كل الاتجاهات... تنطق على لسانه مسيرة المعاناة
الطويلة.أقبل شهر يونيو 1967م حاملاً حرارة فصل الصيف، وقرع طبول الحرب...
تحركات ميدانية متلاحقة... تصريحات متوعدة هنا وهناك... أختلط لدى الناس
شعور القلق بالخوف والأمل... اشتم البعض رائحة النصر محمولة مع الرياح
القادمة من الجنوب... واستطلع البعض بشائر العودة إلى ارض الوطن مرسومة
على وجه القمر الصاعد من الشرق.عشنا معاً في فلسطين قرونا طويلة... شعب
واحد... أفراح وأعياد مشتركة... وما أن بدأت أمواج الغرباء تتدفق من وراء
البحر... تقطعت الأوصال... تفرق الأقارب والجيران... إلى أين يشدوا الرحال
و الموت يتخطفهم في السهول والجبال.فرض الإخوة علينا الانتظار... حلفوا
لنا بأغلظ الأيمان... وشرف السلطان... بالحلال والحرام... أننا في أمان
... ولن يطيب لهم حال... ولن يهدأ لهم بال قبل أن ( يعود العجل إلى بطن
أمه )... وكل ما هو مطلوب منا... شوية صبر. مشاهد متكدسة في غرف
الذاكرة... عام اللجوء... مقهى القرية... المذياع الكبير الحجم... يعمل
على بطارية سائلة... كل ليلة نداوم هناك... نجلس على الأرض... نسمع أخبار
القاهرة وعمان... الأناشيد الوطنية و القومية... نطفو على سطح الأوهام...
نحلم بالفرج القريب... طوفان يعم المنطقة... يعيد للبحر نفاياته... نهلل و
نكبر لسفن العودة وهي ترسو على قمم جبال الجليل.يجلس الشاعر الشعبي على
منصة مرتفعه في صدارة المقهى... متربعا على أريكة من الخشب... يرشف كوب
الشاي ببطء... يبرم بإصبعية شاربين كثيفين أكلا معظم فمه-وابتلع رأسه
طربوش تركي تدلت منة شرشوبة متأرجحة... يحضن ربابة مصنوعة من جلد
الحمير-وأوتار من سبابه الخيل... يحكي بصوت جهوري ملحمة عنترة بن شداد...
ينشد شعرا... يعزف لحنا... اهتزت له أوتار قلوبنا... انتفخت أوداجنا...
واجهنا التحدي بحرق المزيد من لفافات التبغ البلدي... كل واحد منا يتخيل
نفسه فارساً... وكثيراً ما حدثت مشادات بين متعصب لهذا الفارس أو
ذاك.بالقرب مني يجلس أستاذ مدرسه... الجميع في واد وهو في واد أخر...
عيناه شاردتان نحو الأفق... يقضي جزء من المساء في القهوة بعد قضاء نهاره
في استقبال الأطفال تحت سقف عٌرش من الحطب و سعف النخيل... يعلمهم اللغة و
الدين و العلوم والرياضيات... وجدت نفسي انتقل إلى جانبه قاطعا عليه
تأملاته.
ــــ أستاذي العزيز... ما لنا و تلك القصص القديمة... نعيش كارثة لا سابق لها.
ــــ الكارثة التي ألمّت بنا ليست نهاية التاريخ.
ــــ اشعر بصعوبة في استيعاب ما تقول... أنني معجب بهدوئك وتفاؤلك.
ــــ انشدا الناس لتلك القصص الشعبية مؤشر لخيارات قادمة.
ــــ مخيمات لجوء مبعثره يحلمون بفارس يطل عليهم من خلف الأفق !
ــــ الفارس وحده لا يحل المشكلة.
ــــ حملنا تقيل ومقدرتنا ضعيفة وعزوتنا مُتعَبة.
ــــ حركه الواقع كفيله بتغير كل ما هو قائم.
ــــ الأقوياء وحدهم من يوجهون حركة الواقع.
عادت
طبول الحرب تقرع من جديد...سحقا للمذياع اللعين... لا يريح أعصابنا...
أخباره متضاربة... كأنه بتأمر علينا... ننتظر شيئاً ما كل إشراقه
شمس...شيء كشفت عنه شمس الخامس من حزيران 1967م... ألقت بضوئها على واقع
كارثي جـديد.
تلاشت رائحة النصر، وتبددت بشائر العودة… وخابت قراءة
المنجمين... الصدمة أذهلت الناس... أدخلت الجميع في منطق اللامعقول…
هائمين في كل اتجاه… فصل جديد من المعاناة… الكل يبحث دون جدوى عن مكان
أمن يلجأ إليه… قرأنا سورة الفيل والطير الأبابيل دون تركيز… عشنا يوم
الحشر قبل الممات… لا أحد ينفع أحد… لا صديق ولا رفيق… لا أخوة و لا
أخوات.وسط الغبار والجو العابق برائحة البارود وقع نظري على رجل أشعث أغبر
يجرجر ساقين لا تقويان على حمله...تتدلى من على كتفة قربة ماء.
ـــ أستاذي ... أراك متعبا وكأنك تبحث عن شيء ما.
ـــ أبحت عن طفل قد يحتاج إلى شربه ماء.
ـــ هذا المشهد ليس جديد علينا… سبق وان تكرر مرتين.
ـــ احرص على البقاء... المشوار طويل.
عادت
بي الذاكرة إلي ما قبل عدة سنوات... حرب 1956م... أبرياء موتى بلا قبور...
كان القتل مبرمجاً وسهلاً... بلا حسيب ولا رقيب... نبات التين الشوكي
الوحيد الذي احتضنني وأعمى عني عيون الذئاب المنفلتة.انعدمت الخيارات...
بات الحرص على البقاء هو الأصوب... قررت مغادرة قطاع غزة مؤقتا إلى الضفة
الغربية.
طفلتي الوحيدة... برعم قد يسقط قبل أن يتفتح... أحرقت والدتي
البخور... قرأت التعويذة... ابتهلت إلى الله بألا يحرمها مني...لم يعد لها
ذخر سوايا بعد أن أكلت سنوات اللجوء زهرة عمرها... مشهد لم تقوى زوجتي على
استيعابه... تيبست حياتها مبكرا... كل معالمها حروب ولجوء... دماء و
فراق... لم تعش حياة الطفولة المدللة ولا الصبا السعيدة... تكسرت
الابتسامة على شواطئ شفتيها... اكتفى والدي العجوز بجملة واحدة... نحن في
انتظارك.
تزودنا بما نحتاجه من الخبز و الماء... كان عددنا ستة عشر
شاباً... حملنا بعض الأسلحة الخفيفة... لعلها تحمينا من شر مفاجئة غير
محسوبة. بزغ ضوء الفجر... اقتربنا من مدينة (بئر السبع)... تمنيت لو كان
بالإمكان لعرجت على بيتنا القريب من هنا... أسأله عن حاله وأشكو له
حالي... أسأله عن فرن الخبز وحظيرة الدجاج... عن الناي والمحراث... أعانق
ذكريات الصبا... أشكو لها الابتسامة المفقودة و المستقبل الضائع.فوجئنا
بثلاث عربات عسكرية... انهمر علينا الرصاص كالمطر... طلبوا من خلال مكبر
الصوت تسليم أنفسنا... تبادلنا معهم إطلاق الرصاص... حاولنا الإفلات...
كان الحصار محكماً… ليس لدينا خبرة عسكرية... المعركة من جانب واحد...
استشهد منا خمسة رفاق... جميعهم مزارعين... طموحاتهم بسيطة... بساطة أبناء
الريف... كانوا يحلمون بحياة أسرية آمنة... لم يمنحوهم الفرصة لتحقيق
أحلامهم... تركوا جثثهم في العراء.
وضعوا القيود في أيدينا... القوا
بنا على وجوهنا داخل إحدى العربات... الضرب متواصل بأكعاب البنادق طيلة
الطريق إلى مركز أمن ( بئر السبع ).
ضابط التحقيق القادم من وراء البحر يلوم قائد الدورية.
ــــــ لو قتلتهم جميعاً لأرحتنا منهم.
ــــــ اعتقد انه يمكن الاستفادة منهم.
خمسة
وعشرون يوماً مع التحقيق... الضرب بالعصي وكابلات الكهرباء... التهمة أننا
عصابة من القتلة... القرار سهل... التوقيف حتى وقت غير معلوم... السجن في
معتقل ( تلموند ) قرب حيفا.
حرب 1967م فتحت فصلا جديدا للمعاناة...
ابتلع الاحتلال غزة و الضفة معا... الذئاب في كل حارة... العدسات الخفية
في كل زاوية... زوار الفجر يدخلون البيوت من غير أبوابها... ضاقت بي
الأرض... عسى أن يكون النوم في مكان أخر خارج البيت هو القشة التي تنقذني
من الغرق ....
يتبع ....فانتظرونا ؟؟؟؟...