يبدو
انني خربطت في الكلام، انعقد لساني لم انبس بحرف واحد، انقلب كيان غادة
وللمرة الاولى اراها والابتسامة تتلاشى عن ثغرها، تجهم وجهها، وبدت عليه
علامات الحزن والالم، ترقرقت الدموع في مقلتيها وتيبست، حملقت في عينيها،
واذا بالدموع تأبى الخروج من مقلتيها بعد ان تفجرت في داخلها كالبراكين
...شخصت عيناها وهي تنظر للا شيء وقالت والحزن يمزق جفنيها ويخترق شغاف
قلبي:
ـ "ليس لاحد قدرة على رؤيتي الا اذا اردت انا ذلك "...ثم اشاحت بوجهها عني كي لا ارى الدموع في عينيها، واضاقت:..
ـ " انا من يقرر متى يراني أي انسان، اياك ان تفكر ان ظهوري فيه متعة لي،
او انه مجرد تسلية، لا، الامر اصعب من هذا بكثير لأن من يظهر منا لأي انس،
يعرض نفسه لمخالفة عقائدية في عالمنا، مما يترتب عليها عقاب عسير لا
يتصوره عقلك أو عقل احد من البشر، ان احدا منكم لا يتصور مدى هول ذلك
العقاب وألمه".
سكتت عن الكلام وحركت رأسها للجهة المعاكسة لي بخفة وسرعة، تموج شعرها
الناعم وطار فوق راسها، فماج بدلال وسرى سريان الموجة التي امتدت يدها
اليه، رفعته عن وجهها لينسدل على ظهرها وكتفيها. بالفطرة ادركت انها قامت
بهذه الحركة لتمسح دمعة من عينيها سقطت على خدها رغم ما اظهرته امامي من
صبر وتجلد ..انتصبت وكانها تريد اخفاء ما بها من ضعف فقالت بنبرة كلها
جديةكأنها تريد الثأر لكبريائها:
ـ "لا تعتقد ان الاتصال مع الانس بالنسبة لنا أمر سهل، واعلم أنه من اصعب
الامور وأعقدها، ويا ويل من يحاول ذلك منا، وأضف الى معلوماتك يا حسن ان
من اسخف الامور عندنا هي الاتصال بالانسان.و تأكد يا حسن يا ابن المدارس،
يا متعلم، يا فيلسوف زمانك ويا صاحب الخبرة في الحياة انك اكثر من غيرك
ايماناً بوجود عالم آخر او ما تسميه بالخرافة، وتجهد فكرك في خلق المبررات
والتفسيرات والتحليلات، التي تقنع نفسك بها ظنا منك انها استنتاجات فقط
لارضاء غرورك الذي لا حد له ..."
اختلفت لهجتها وازدادت حدة لتقول:
ـ "كفاك غروراً ..ان هؤلاء الذين هم في نظرك اغبياء يؤمنون بالخرافات، فهم
لا يجهدون انفسهم ولا يضيعون وقتهم وهم يتفننون في خلق المسميات
والتفسيرات، فكفاك مكابرة، اما انا فلا انكر انني ارتكبت حماقة وسخافة
سادفع ثمنها غاليا، وقد بدات من الان ادفع ذلك الثمن لاني اتصلت مع انسي،
نعم، لقد اتصلت بك يا حسن.
على كل حال انتهى وقتي ويجب على المغادرة .
ـ غادة انا اسف، لم اقصد الاساءة لك او ان اجرحك بحرف مما قلت ...
ترقرق الدمع في مقلتيها مرة اخرى وقالت بصوت متهدج :
ـ "انا التي يجب ان تتاسف يا حسن "...
حاولت ان امد يدي تجاهها، لكن شيئاً ما فيه قوة خفية منعني ان افعل ذلك ...
ـ غادة ارجوك ان تسامحيني، لا ادري ماذا جرى لي، لم اقصد...
حملقت عيناها في عيني واذا بدمعة وكانها لؤلؤة ثمينة تلقفها صحن خدها فاستقرت عليه. واختفت...
ـ غادة ... غادة ...غادة...
ناديت كمن يستحضر الاموات من القبور وليس من مستجيب...اختفت غادة واختفى
معها ضوء القمر، وقلبي يتفطر اسى وحزناً على فراقها، لقد كانت دمعتها
الاخيرة اشبه بخنجر استل وأغمد في أحشائي، ذهبت وتركت لي عذاب الضمير يجثم
على أنفاسي، يا الله ما اسخفني، وما أحمقني، كنت جلفا معها الى ابعد حدود
القسوة، ايعقل ان يكون لي قلب ومشاعر واحاسيس ...كيف طاوعني قلبي وكيف
سمحت لنفسي ان اسيء لها وان اجرح شعورها المرهف .
انا لا استحق منها نظرة واحدة ولا استحق من عينيها الجميلتين دمعة واحدة
...اعترف انني بكيت وكانت هذه المرة الاولى التي ابكي بها في حياتي بكاءً
صادقا. ذرفت دموعاً من اعماق القلب. دموع حرارتها من نار عذاب الضمير
...ابكي هذه المرة بصدق اناشد بصدق ...اتوسل بصدق، واطلب المغفرة
بصدق..اعترف الان ان قوتي انهارت وفلسفتي الغيت وتحطم عنادي وانا ساجد في
محراب جمالها.
فتحت عيوني بتثاقل فلم ار شيئا، اغمضتها وفتحتها مرة اخرى وكانت الغشاوة
من امامي قد انقشعت لاجد نفسي في احدى الغرف كل ما فيها من اثاث ابيض،
ومجموعة من الاشباح تحيط بي وهي ترتدي الملابس البيضاء، وكل واحد من
الاشباح يتمتم مع الاخر، خبأت عيوني... اغمضتها ...اية كوابيس واية احلام
هذه ...استسلمت لهواجسي حتى كاد راسي ينفجر...هل انا في الفضاء؟ لا، ربما
في عالم الجن ...؟هل هؤلاء الذي يحيطون بي هم شرموخ، ونجوف، زليخة،
وشعشوع؟؟ بماذا يتمتمون؟ هل يقولون لبعضهم البعض هذا ابن ادم الذي جرح
كبرياء إبنتنا ...حسناً، ماذا سيفعلون بي ؟هل سيعلقونني من شعري في
الفضاء؟ لا،لا، ربما سيضعونني في طنجرة كبيرة..او يحدث معي مثل ما يحدث في
حكايات الف ليلة وليلة وسيسحروني على هيئة قرد او يمسخونني على هيئة كلب
او حمار وربما على شكل دجاجة...!
اغمض عيني.. انام ثم استيقظ.. ثم انام ثم استيقظ والاحلام ما تزال
تراودني، والكوابيس تلاحقني ثم انام واستيقظ ولا اقوى على الحراك. افتح
عيوني اتفحص الغرفة، اجد امي جالسة امامي، انها نائمة على الكرسي بجانبي،
يعاودني السؤال: اين انا ؟..ماذا يحدث؟ اتذكر الحديقة.. غادة ..دموع
...نعم اذكر، لقد كنت في الحديقة وكانت معي غادة ،حدثتها وحدثتني، اغضبتها
حزنت لذهابها ..نعم لقد تركتني ولكن اين انا...؟
زاحمت الافكار في مخيلتي، ومن وسط زحام الافكار، ظهر وجه غادة الجميل
...انها غادة كما عهدتها، بنظراتها وابتساماتها الساحرة، اقتربت مني تسير
بدلال وانفة، ونظرات عينيها لا تخلو من بريق الحزن والشفقة، دنت وجلست على
حافة السرير بجانبي حاولت النهوض ..لم استطع الحراك ولم اقو على الكلام
..كل شيء شل في جسدي ما عدا التفكير والنظر ..انظر اليها ..ترفع يديها
تمتد نحوي تميل بجسدها المتناسق وصدرها المكتنز باتجاهي، ينسدل شعرها
الاسود كالشلال يتدلى على صدرها ليلامس صدري ليفصل بيننا تبعده بيدها برقة
ودلال تزداد زاوية ميلها وكان بها شوق ولهفة لاحتضاني تسارعت دقات
قلبي...حاولت تحريك يدي ولم افلح...يختلجني شوق دفين اتمنى ان اضمها بعنف
الى صدري ولكنني لا استطيع، لا اقوى على فعل ذلك ..